هناك من فئام الناس من يتلهى ببعض الملهيات التي تنأى به عن الرشد ويذر المعاول أو العوامل التي طالما أحيت قلوبا غلفا ، وأنارت بصائر طمسا .. فتراه تارة يعمل ، وتراه أخرى يغفل ، وتارة تراه يسأل ، وأخرى تراه يكسل.
يتحين الأحايين والفرص التي تواتي قلبه الجائع وتبعث إليه نشوة الفرح والمرح أيا كان موقعها من الحلة والحرمة.
والقرآن في مجمله تارة يلح وأخرى يلمح إلى كل عارف حصيف.. بأن يجعل في حياته ومن نفسه أسباباً تربطه بربه وتمهد له طرق الخير وتحيي قلبه ، وتوصد عنه أبواب الشر التي تقسي أو تمرض هذا القلب.
والهدى له زروع شتى تنبت في القلب فتستحيل إلى وشائج ودعائم بين العبد وربه تشتد وتقوى بين الحين والآخر إذا ما تعوهدت بما يبقيها سالمة من سموم التعفن والبوار.
أذكر منها عشرة أمور لا للحصر ولا للقصر :
أولاً: الورد القرآني : فكلما تجرع القلب غذاءه من كلام الله بشكل يومي وفي هيكل منتظم كلما تضلع بالحيوية والانتفاع ، وازداد زكاءً وطهرا ، إلى أن يصبح لا شية فيه ولا تلويث . ولا يكون التأثر إلا بالتدبر ، ولا يتأتى التدبر إلا بالتفكر ، ولا يستقيم اللسان حتى يترطب بالقرآن ، ولا يستجيش الوجدان بألذ من كلام الرحمن .
ثانيا: الذكر : من أعظم الدلالات وأقوى العلامات على محبة المحبوب هو الإكثار من ذكره .. بالنطق أو بالقلب أو بالفكر .. وكلٌ بحسب ، فذكر الله سمة المحب له ، والناس في ذلك بين مستقل ومستكثر، وإدامته خير للعبد من جل عبادته .. فيكون في كل حال وشأن ، وهو مع كل فرض ونفل .. فالصلاة ذكر ، والقرآن ذكر ، والدعاء ذكر ، والحج ذكر ، والتفكر ذكر.
والذكر : يجر إلى العبد من الفضائل الجمة التي تحدو به إلى أنبل الدرجات وأسماها .. في الدنيا والأخرى .. فنعما هو في جلب الطاعات والأجور ، ونعما هو في درء الأوزار والشرور .
ثالثا: ديمومة الاستغفار والانكسار : لا أدل لنقاء التوبة وصدق الأوبة من سرعة الاعتصام بهذين الركنين الشديدين .. ندمٌ في ذلة ، واستغفار في إقرار .. إنها من أجلّ وأعلى مقامات العبودية على السواء ، فيها يكون صفاء السريرة ، ومنها يكون سماح السجية ، ولها يكون حب البرية .
ومن أراد المزن المدرار ، وقوة الأبدان ، والمال والأولاد .. فليكثر من الاستغفار ، وليخنع ويخضع ويخشع لرب الأرض والسماء .. سيما .. مع كثرة الأخطاء والأوزار؟.
رابعا: الدعاء: إن من فضائل الله العظمى ، ومننه الكبرى .. أن سوغ للإنسان الضعيف العاجز مخاطبته دون عناء وفي أي حين وأي بلاء .. يخاطب الملك العلام الذي بيده الخزائن العظام .. فيعطيه سؤله ، ويفي له بوعده.
وفي الدعاء : لا بد للمريد الطامع في فضل الله الواسع .. أن يلح في المسألة ، ويتفاءل بلا عجلة ، ويستكين في ذلة ، ويحضر القلب والنية . والدعاء ..لا يُُلهَمَه إلا مُلهَم ، ولا يهمِلُه إلا مهمِل.
خامسا: الخشوع : ففي عموم الأمة .. لم يعد للصلاة خشوع .. فباتت الأخلاق متبعثرة ، والنفوس متغيرة ، والآراء متضاربة .. أصبح الاهتمام بالمفضول ، واشتغل الناس بالفاني المملول ، ولو عاد الخشوع إلى المسلمين لتبدل الحال ، وصلح المآل ، وتفرق الضلال . إن الصلاة بلا خشوع كالحرث بلا زروع .. إذ لا نفع ولا جدوى ولا نهوض بغيره .
سادسا: قيام الليل : مفتاح السعادة في الدنيا والآخرة .. ذلكم هو الوقت الذهبي في برنامج الأتقياء .. دعاءٌ ورجاء ، توبةٌ وأوبة ، خشوعٌ وخضوع ، تلاوةٌ ومناجاة ، انشراحٌ وانفتاح .. وفي وقت الأسحار : ينام أكثر الأنام عن هبة الملك العلام ، من إجابةٍ وإعطاء ، ومغفرةٌ وإرضاء . وأما من يقوم الليل - وقليلٌ ماهم - فإنه محبٌ لربه ، ويخشى عذابه ، ويرجو رحمته يصدّق قوله بفعله.. نسأل الله الكريم من فضله .
سابعا: صحبة الأخيار: كثيرٌ هم أولئك الذين يعيشون بدون أطر قويمة تحكمهم من التفلت في بحار الضياع .. ولا أقوى ولا أقوم من أطر الصحبة الصالحة .. فهم المرايا خير البرايا .. بهم تعرف النقائص والعيوب ، وبهم تغفر الخطايا والذنوب ، وبهم تضاء المسالك والدروب .
تعيش معهم عزيزا ، وتموت معهم كريما .. إن غبت افتقدوك ، وإن عبت ستروك ، يسوقون لك الفضيلة ، ويدفعون عنك الرذيلة .
ثامنا: الأخلاق الحسنة : لا يستطيعها الكثير لعلو درجتها ، ولا ينالها اللئيم لوعر تلبسها والخلوق دائما ما يصدق في المخبر والمظهر ، ويصفو في الوجه والجوهر .. والأخلاق في هذا الزمن جفت وندرت .. فلم يعد للابتسامة حيز ، ولم يعد للمصافحة متسع وهذا عند فقراء الأخلاق فقط - وهم كثير- .
تاسعا: المحاسبة : محاسبة النفس هي أحد روافد التطوير والتنمية ، وبها تتبدى الأخطاء ، وتعلو الهمم ، وتصفو السرائر ، وتحيا القلوب . . هي من سمات المتقين ، وفيها نبراساً للمخلصين .. وكلما صحت المحاسبة ودامت كلما تمت النفس وقامت .. وإن لم يحاسب الإنسان نفس فليتربص بزيغها واستعصائها .
عاشرا: الصبر : وهو خصلةٌ حميدة ، هنيئاً لمن اختصل واتصل بها ، ونعمةٌ عظيمة لا يعرف قدرها إلا محروموها .
والصبر يكون على الطاعة علها أن تدوم ، ويكون عن المعصية علها أن تذوب ، ويكون على الأقدار علها أن تهون . من ثمراته اليانعة الزكية : قدوم النصر ، وحصول الأجر ، وظهور الفجر ، وبالتالي يكون في الأرض التمكين وإلا فجنات الخلد والنعيم.. حقاً إنه المفتاح.
وأخيرا : هذه بعض الوشائج المهمة والمسارب المضيئة التي ما إن يتمسك بها الفرد المسلم إلا ويجعل من نفسه منارةً من منارات الهدى ، ومعلما من معالم الطريق .. هي بعضٌ من الإشارات والإلماحات ، وكلٌ منها يفتقر إلى مزيدٍ من التوسع والإبحار بل والغور في الأعماق لجلب الدرر والأثمان .
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن ينفعنا وإياكم بها ، وأستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .