الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا وسيدنا وقائدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن الله تعالى برحمته وحكمته وعدله قد أمر بالعدل والإحسان وحرَّم الظلم والبغي والعدوان: كما قال سبحانه: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( النحل: 90 ).
وقال الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا ) رواه مسلم.
واقتضت سنته الكونية هلاك الظالمين ومحق المعتدين، وقطع دابر المفسدين، سواء أكان الظالم فردًا أم جماعة أم أمة من الأمم.
لقد حفل القرآن الكريم بالأخبار الكثيرة عن مصارع الظالمين ومصير المفسدين، الدين عمَّرُوا عمرانًا عظميًا، وشيَّدُوا حضارات عتيدة، وظنوا أنهم بلغو النهاية في القوة والعزة، وغرتهم أنفسهم فظلموا وأفسدوا، وما تركوا ظلمهم رغم الآيات والنذر، فحقت كلمة العذاب عليهم، وأصبحوا أثرُا بعد عين وخبرًا طواه التاريخ يُتْلَى للتذكرة والاعتبار.
إنها سنة ماضية في الظالمين مهما اختلفت أزمانهم وتباعدت بلدانهم وتنوعت أعراقهم، فسنن الله تعالى لا تحابي أحدُا، ولا تفرق بين زمان وزمان، أو تطال أقوامًا، فمن ظلم وتمادى في ظلمه فهلاكه واقع لا محالة إلا أن يَمُنَّ الله تعالى عليه بتوبة عاجلة قبل حلول العذاب.
إن من عدل الله تبارك وتعالى أنه لا يُهلك مَن لا يستحق الهلاك، ولا ينزل العذاب إلا بمن أتى أسبابه، وحقَّق موجباته، والآيات القرآنية الكريمة دالة على هذه الحقيقة، ومنها قول الله تعالى: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ) ( هود: 117 )..
وقال سبحانه: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ) ( القصص: 59 )، وقال عز وجل: ( وَتِلْكَ القُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً ) ( الكهف: 59 )..
ولما قضى الله تعالى بإهلاك قوم لوط علَّق سبب هذا الهلاك على ظلمهم فقال سبحانه: ( إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ) ( العنكبوت: 31 )، ولما كذَّب أقوامٌ رسلهم، وظلموا أتباع الرسل أوحى الله تعالى إلى الرسل بهلاك هؤلاء المكذبين الظالمين فقال سبحانه: ( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) ( إبراهيم: 13-14 ).
والظلم الذي تقع فيه الأمم على نوعين:
أولهما: ظلم النفس بالشرك والكفر، ورفض دين الله تعالى الذي ارتضاه ورد شرائع الرسل عليهم السلام، واستبدال ذلك بالقوانين والأنظمة البشرية أو تعاليم السادة والكبراء المنبثقة عن الأهواء والشهوات.. وهذا النوع هو أكبر أنواع الظلم وأشدها خطرًا، كما قال الله سبحانه: ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) ( لقمان: 13 ).
وثانيهما: ظلم الناس وذلك ببخسهم حقوقهم؛ والتسلط على مواردهم وثرواتهم والتدخل في شؤونهم وخصوصياتهم وسلبهم إرادتهم وحريتهم وقسرهم على المناهج والتعاليم التي ترتضيها القوى الظالمة.
والنوع الأول من الظلم مستلزم للنوع الثاني: كما يشهد بذلك الحال، وكما يدل عليه تاريخ الطغاة الظالمين؛ فإن أتباع الأنبياء والمرسلين من العامة والضعفاء ما سلموا من ظلم السادة والأقوياء الذين رفضوا أن تكون العبودية خالصة لله تعالى، وأرادوا تعبيد الناس لأصنامهم وأهوائهم، فقهروا الناس على ظلمهم وقسروهم على شركهم فكانت نتيجة ذلك غضب رباني على الظالمين جعل أرضهم يبابًا، وديارهم بلاقع، عبرة للمعتبرين.
منهم قوم نوح عليه السلام الذين كذبوا نوحُا، وظلموا أتباعه، واحتقروهم، وازدروهم، وقالوا: ( وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ) ( هود: 27 )، فلما أنهوا المهلة التي قدرها الله تعالى لهم، ولم يتوبوا من استكبارهم، قضى سبحانه بهلاكهم، وعلَّق ذلك على ظلمهم فقال سبحانه: ( وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ) (هود: 37 ) فلما أغرقهم أخبر عن ذلك بقوله: ( فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ) ( العنكبوت: 14 ).
ومنهم عاد قوم هود عليه السلام الذين غرَّتهم قوتهم، حتى قالوا: ( مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ) ( فصلت: 15 )، فلما زاد عتوهم، وعلا ظلمهم أخذهم الله تعالى، وأخبر عنهم بقوله سبحانه: ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ ) ( فصلت: 16 ).
ومنهم ثمود قوم صالح عليه السلام الذين طلبوا الآيات فلما جاءتهم كذَّبوا بها، وعقروا الناقة، فحق عليهم عذاب الله تعالى بسبب ظلمهم، كما قال سبحانه: ( وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) ( هود: 67 ).
ومنهم قوم لوط عليه السلام الذين كذَّبوا الرسل، واستحلوا الفواحش، ولم يعتبروا بما سلف من إهلاك الظالمين، فساروا على دربهم، وعملوا بطريقتهم فأمر الله تعالى بقلب ديارهم عليهم، وإتباعهم بحجارة من نار، فحمل قريتهم ملك من الملائكة ثم قلبها عليهم: ( فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ) ( هود: 82-83 ).
وأخبار الظالمين وما جرى لهم من العذاب كثيرة، والأمم التي أهلكها الله تعالى بسبب ظلمها وبغيها عديدة، كما قال سبحانه: [color=blue]ْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ بياء: 11 )..
وقال سبحانه: ( وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المَصِيرُ ) ( الحج: 48 )، إنه هلاك وعذاب طال البشر والحيوان والديار والعمران، ولم يبق حجرًا على حجر، فاستحال عمرانهم خرابًا، وديارهم يبابًا: كما قال سبحانه: ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الوَارِثِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ) ( القصص: 58-59 ).
[color=blue]إن هذه السنة الربانية المتكررة عبر الأزمان يحتاج إلى قراءتها وفهمها كل البشر في هذا العصر سواء أكانوا من الظالمين أم من المظلومين؛ فالظالمون يحتاجون إلى قراءتها وتدبرها وفهمها، لعلهم يرتدعون عن ظلمهم ويرعوون عن كفرهم فيشكرون الله تعالى على ما مَنَّ به عليهم من القوة والسيادة في الأرض بإقامة العدل، ورفع الظلم، وعدم استغلال ضعف الضعفاء بالتسلط عليهم، ونهب ثرواتهم ومقدراتهم، وتبديل دينهم وثقافتهم تحت مشاريع النظام الدولي الجديد، والعولمة، وسيادة النظم الرأسمالية، التي زيَّنت لهم شياطينهم أن نهاية التاريخ عندها..
وأن أي معارض لها أو ناقد لبنودها ومقرراتها فهو خارج عن الإجماع الدولي، فالناس لهم خصوصياتهم وثقافاتهم التي لا يرتضون تبديلها بالقهر والقوة والتسلط، كما تريد أن تفعل القوى الرأسمالية المعاصرة...
كيف وللمسلمين دين حق، هو دين الأنبياء كلهم عليهم السلام. فلن يحاربه أو يحاول تبديله إلا معذب هالك، ولن يكون مصيره إلا عين مصير الظالمين المستكبرين الذين رفضوا دين الله تعالى، واستنكفوا عن شريعته، وحاربوا حملتها من الأنبياء والرسل عليهم السلام، ولسنا نخاف على دين الله تعالى؛ لأنه محفوظ بحفظ الله تعالى له، وستظل طائفة من المسلمين يدينون به، ويبلغونه غيرهم إلى أن يأتي أمر الله تعالى كما جاءت بذلك الأحاديث عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
وكما يحتاج الظالمون إلى معرفة السنة الربانية في إهلاك الظالمين لعلهم يجتنبون الظلم
فإن المظلومين في أَمَسّ الحاجة إلى معرفتها أيضًا، ولا سيما إذا كانوا من المسلمين أتباع الأنبياء عليهم السلام؛ لأن معرفتهم بعواقب المجرمين ومصارع الظالمين تزيدهم إيمانًا بدينهم، ويقينًا إلى يقينهم، وثباتًا عليه مهما كانت التبعات والتضحيات.
كما أن فيها تسلية لهم، وفتحًا لأبواب الفرج والنصر، وكلما زاد ظلم الظالمين، واستكبار المجرمين، وأصرَّوا على تغيير معالم الدين علم المؤمنون أن هلاك الظالمين بات وشيكًا،
وأن سنة الله الماضية في الظلم وأهله قد أَزِفَ وقوعها؛ لتكون عذابًا على أعداء الديانة، ورحمة ونجاة لأتباع الرسل عليهم السلام، كما مضت سنة الله تعالى في الظالمين السابقين الذين هلكوا في أوج قوتهم وسيادتهم، واستفحال ظلمهم وطغيانهم..
( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ ) ( الأنعام: 44-45 )، ( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) ( هود: 102 ).
أسأل الله تعالى بمنه وكرمه - وفي هذا الشهر الكريم المبارك شهر النصر والعزة - أن يُعِزَّ دينه، ويُعْلِيَ كلمته، ويثبتنا على الإيمان والسنة إلى أن نلقاه غير مبدلين ولا مغيرين، كما أسأله تبارك وتعالى أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كيد الكائدين، ومكر الماكرين، وأن يرد كيدهم إلى نحورهم، ويجعل تدبيرهم وبالاً عليهم، إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.